هزيمة الديمقراطيين- هل دعم إسرائيل السبب؟

المؤلف: د. عبد الرزاق مقري10.02.2025
هزيمة الديمقراطيين- هل دعم إسرائيل السبب؟

عادة ما تأتي العواقب غير المتوقعة عندما يتخطى الظالمون كل الحدود، هذه سنة كونية متأصلة في صميم التاريخ البشري، فالخسائر الفادحة غالبًا ما تنشأ من منعطفات وظروف غير متصورة.

في هذا السياق، تتبادر إلى الأذهان تساؤلات جوهرية حول السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة تحت قيادة الرئيس جو بايدن وفريقه من الحزب الديمقراطي، ولا سيما دعمهم الراسخ لإسرائيل في خضم الصراع الدائر في غزة. يتجلى هذا الدعم في صور شتى، من توفير الأسلحة المتطورة والتمويل الضخم إلى التغطية الدبلوماسية والمساندة السياسية، وذلك على الرغم من الدمار الهائل والخسائر الموجعة في الأرواح التي خلفها الصراع في صفوف المدنيين الأبرياء.

وعلى الرغم من الانتقادات الحادة التي وجهت للإدارة الأميركية من الداخل والخارج على حد سواء، بما في ذلك الاحتجاجات الطلابية العارمة والمظاهرات الحاشدة التي عمت العديد من دول العالم، تصر الإدارة الأميركية على التمسك بموقفها الثابت، مما أثار موجة من الدعوات المطالبة بوقف فوري للعنف والبحث عن حلول سياسية عادلة تضمن احترام حقوق الشعب الفلسطيني.

على الرغم من التقارب النسبي في استطلاعات الرأي بين الديمقراطيين والجمهوريين، فقد دأب العديد من المؤثرين في الرأي العام على الترويج لفكرة مفادها أن دونالد ترامب شخصية مثيرة للجدل، يعتمد في خطابه على أسلوب الشعبوية ويستند إلى صعود اليمين المتطرف، وأنه لن يتمكن مرة أخرى من تحدي المؤسسات الأميركية الراسخة ذات الجذور العميقة.

لكن النتائج الصادمة جاءت لتفند تلك التوقعات، حيث مني الديمقراطيون بهزيمة قاسية وساحقة، تجسدت في فقدانهم لمنصب الرئاسة المرموق والأغلبية في كلا المجلسين التشريعيين، بالإضافة إلى خسارتهم لعدة معاقل تقليدية كانت تعتبر بمثابة مناطق نفوذ ثابتة ومضمونة لهم.

إن الأسباب الكامنة وراء خسارة كامالا هاريس للانتخابات الرئاسية عديدة ومتنوعة، ويمكن إجمال أهمها فيما يلي:

  • في مقدمة تلك الأسباب يأتي تراجع تأييد الناخبين الذين كانوا محسوبين تقليديًا على الحزب الديمقراطي، وعلى رأسهم السود واللاتينيون، حيث شهد التصويت لصالح ترامب ارتفاعًا ملحوظًا في أوساط السود من 8% إلى 13%، وفي أوساط اللاتينيين من 32% إلى 45%.

تمثل هاتان الشريحتان الاجتماعيتان الفئة الأكثر تضررًا من الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي يعاني منها النظام الرأسمالي المتوحش، الذي لا يميز بين الديمقراطيين والجمهوريين في سعيه المحموم نحو الربح، إذ إن كلا الحزبين يعمل بشكل أساسي لصالح اللوبيات المالية القوية والتوجهات الاقتصادية التي تكرس الثروة في أيدي قلة من الأفراد، بل إن أوضاع هاتين الشريحتين الاجتماعيتين قد تفاقمت بشكل ملحوظ في عهد بايدن مقارنة بما كانت عليه في عهد ترامب السابق، وذلك فيما يتعلق بالتضخم الجامح وارتفاع تكاليف المعيشة، وأسعار الوقود، وغيرها من الضروريات الأساسية، على الرغم من الوعود الطنانة التي عادة ما يطلقها الديمقراطيون بهذا الخصوص.

علاوة على ذلك، بدأت العديد من تلك الفئات تشعر بأن حكامهم الديمقراطيين باتوا يهتمون بمصير الإسرائيليين أكثر من اهتمامهم بمصير الأميركيين أنفسهم. كما أن هناك عاملًا آخر بالغ الأهمية رصده المراقبون لتوجهات الرأي العام في أميركا، وهو ما يتعلق برفض العديد من اللاتينيين المسيحيين، ولا سيما الكاثوليك، للتوجهات التي باتت تميل أكثر فأكثر إلى ما يخالف قناعاتهم والتزاماتهم الدينية الراسخة فيما يخص الأسرة وقضايا الجندرة والمثلية وغيرها من القضايا الأخلاقية الحساسة.

  • يضاف إلى ذلك الأداء السياسي المتذبذب لبايدن، وحالة الخرف الواضحة التي ظهر عليها، والانطباع العام الذي ساد في الأذهان عن حالة الضعف التي يعاني منها، وتسلط توجهات متطرفة على قراراته المصيرية في البيت الأبيض، وعلى رأسها اللوبي الصهيوني المتنفذ، الذي مثل وزير الخارجية توني بلينكن الوجه العلني الأبرز فيه.

وقد كان إصراره على الترشح لولاية رئاسية ثانية مخالفًا لوعد قاطع كان قد تعهد به بأنه لن يترشح إلا لولاية واحدة؛ لضمان الانتقال السلس من المرحلة الكارثية التي مثلها ترامب إلى المؤسسية الأميركية المستقرة، على حد زعمه، ثم كان تراجعه المتأخر عن الترشح في يوليو/ تموز 2024، بعد انكشاف ضعف قدراته الذهنية بشكل سافر، متأخرًا جدًا ولم يمنح الوقت الكافي لهاريس في الأشهر الثلاثة المتبقية لتنفصل عن صورته الباهتة.

كما أنها هي ذاتها لم تسعَ جاهدة للتخلص من تلك الصورة النمطية، ولم تتبرأ من أي سلوك مشين لرئيسها، وهو أمر بالغ الأهمية في الديمقراطية الأميركية، بل وقعت في خطأ جسيم استغله ترامب بكثافة في خطبه النارية وأشرطته الإعلانية الدعائية، وذلك حين أجابت بعد تردد وارتباك: "لا شيء يخطر ببالي!" في ردها على سؤال طرحه عليها مذيع قناة ABC يوم 8 أكتوبر/ تشرين الأول قائلًا: "هل كنت ستتصرفين بشكل مخالف لجو بايدن في الأربع سنوات من رئاسته"، وكان يقصد بذلك القضايا الاقتصادية الشائكة والهجرة المثيرة للجدل ودعم إسرائيل غير المشروط.

في نهاية المطاف، كشف فريق كامالا هاريس عن قناعتهم الراسخة وحملوا بايدن المسؤولية الكاملة عن الخسارة الفادحة، ولكن بعد فوات الأوان وبعد أن ترددت أصداء الهزيمة التاريخية في كل مكان.

كما أكد ذلك العديد من المتخصصين في الشأن السياسي، مثل الأستاذ في العلوم السياسية في جامعة فرجينيا لاري ساباتو الذي أوضح بجلاء أن المعركة كانت خاسرة سلفًا منذ أن اتخذ جو بايدن قراره بالترشح وهو في الثمانين من عمره، وكيف أن الاستبدال الذي وقع في اللحظات الأخيرة لم يكتب له النجاح، حيث لم تدخل هاريس المنافسة الانتخابية بأي برنامج خاص بها.

  • وعلاوة على ذلك، لا يمكن إغفال الدور الذي لعبه التيار "غير الملتزم" الذي تشكل من القواعد النضالية الصلبة للحزب الديمقراطي، وعلى رأسهم الطلاب والشباب البيض على وجه الخصوص، ومن معهم من العرب والمسلمين، وذلك على إثر الجرائم المروعة التي شارك فيها قادة حزبهم في غزة، وقد نشط هؤلاء بشكل مكثف في الجامعات، من خلال تنظيم التظاهرات والاعتصامات في كلياتهم، والاحتجاجات المتواصلة ضد أي مساهمة لإدارتها ومشاريعها في دعم الكيان الصهيوني الغاشم، حيث تمكن هؤلاء من تشكيل تيار فاعل لعدم التصويت، وقد مثل ذلك إعاقة إضافية لهاريس وحزبها، بدأت ملامحها تظهر منذ الانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي، حين خسر بسببها جو بايدن نصف مليون صوت، ولكن لم تصحح هاريس هذا المعطى المهم فدفعت ثمنه غاليًا.
  • من جهة أخرى، لا يمكن إغفال الحملة الانتخابية الموفقة التي قادها دونالد ترامب ببراعة، حيث عرف كيف يصوب انتقاداته اللاذعة إلى نقاط الضعف الكامنة لدى الديمقراطيين والأداء السياسي المتدهور لبايدن، ومن ذلك تحميلهم مسؤولية تراجع مستوى المعيشة وإظهار المقارنات الرقمية الصارخة بين عهدته وعهدة الديمقراطيين من بعده، كما عرف كيف يدافع ببسالة عن برنامجه فيما يخص الهجرة غير القانونية التي تثير حفيظة ناخبيه البيض بشكل خاص، دون أن يثير مخاوف الناخبين من غير البيض، وذلك بتركيزه على العامل غير الشرعي للهجرة، وتصويرها بأنها تتسبب في تضييع فرص عمل السود واللاتينيين، والتأكيد على أن هجرة هؤلاء إلى أميركا مرحب بها في إطار القانون.

ومن زاوية أخرى، حرص ترامب على رسم صورة لنفسه كشخصية سياسية وثيقة الصلة بالشعب البسيط وسكان الأرياف المهمشين، إذ ترك التجمعات السكنية الكبرى لتوجهاتها الانتخابية الاعتيادية، وذهب لزيارة سكان التجمعات الهامشية المتناثرة في الأطراف والأرياف النائية الذين لا يلتقي بهم الساسة عادة بشكل مباشر، وهو الخطأ الفادح الذي وقعت فيه هاريس كذلك.

علاوة على خطابه الاعتيادي المفعم بالوعود الاقتصادية المعسولة وتحسين ظروف المعيشة المتردية، والحديث المثير للنزعة القومية المتعصبة كإعادة مجد أميركا التليد، وتعزيز مكانتها الدولية المرموقة، وضبط الفوضى العارمة في العالم، وتحقيق السلام المنشود وإنهاء الحروب المستعرة.

  • وفيما يتعلق بالناخبين العرب والمسلمين، فإنه يمكن القول بكل ثقة بأنه قد وقع تحول تاريخي غير مسبوق في سلوكهم الانتخابي من زاويتين، الأولى من حيث عدم التصويت للديمقراطيين، على غير العادة، سواء بالمقاطعة التامة للانتخابات، أو التصويت لمرشحة حزب الخضر جيل ستاين الداعمة بقوة للقضية الفلسطينية العادلة، أو حتى التصويت لترامب نفسه، والثانية من حيث الأثر الملموس الذي تحقق بتحويل ولاية ميشيغان التي يتركز فيها صوت العرب والمسلمين بشكل أكبر لصالح المرشح الرئاسي الجمهوري، والمساهمة الفعالة في جلب الولايات المتأرجحة الأخرى لصالح ترامب، وكسر ما يسمى بالجدار الأزرق الحصين.

إن السبب الرئيسي وراء هذا التحول الجذري في سلوك الناخبين العرب والمسلمين هو العدوان السافر على غزة، وتورط البيت الأبيض بقيادة الديمقراطيين في هذه الجريمة النكراء، وقد عرف ترامب كيف يستغل هذا الوضع بدهاء من خلال انتقاله شخصيًا إلى التجمعات السكانية العربية والمسلمة والحديث معهم ومع زعمائهم الدينيين المرموقين مباشرة، ووعدهم بأنه سيوقف الحرب على غزة فور توليه منصبه، خلافًا لهاريس التي لم تهتم بهم ولم تزرهم ولم تتحدث معهم على الإطلاق.

لا شك أن انتخاب ترامب لن يمثل تحولًا جذريًا لصالح القضية الفلسطينية بشكل تلقائي وفوري، حيث إن الجمهوريين في الكونغرس والرئاسة منحازون بشكل قاطع لدولة الكيان الصهيوني، ولكن الذي سيحدث هذا التحول المنشود هو طوفان الأقصى المبارك وبطولات المقاومة الفلسطينية الباسلة وثبات وصمود السكان الأسطوري في غزة ولبنان، فهم المعطى السنني الأساسي الذي سيحدث التحولات الحقيقية التي تفرض على ترامب وغيره من زعماء العالم وقف هذه الحرب الظالمة وتغيير نظرتهم النمطية للقضية الفلسطينية العادلة.

وقد أحسن قادة حركة حماس الأبطال حين وضّحوا ذلك بجلاء في تصريحهم الحكيم بعد ظهور النتائج الرسمية للانتخابات الأميركية بالقول: "تعقيبًا على نتائج الانتخابات الأميركية التي تُظهر فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب، فإن على الإدارة الأميركية الجديدة أن تعي جيدًا أن الشعب الفلسطيني ماضٍ قدمًا في مواجهة الاحتلال الغاشم، وأنه لن يقبل أبدًا أي مسار ينتقص من حقوقه المشروعة والثابتة في الحرية والاستقلال التام وتقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها الأبدية القدس الشريف".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة